كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمتى كاد الاسم الظاهر أن يميل من مقام اعتداله ميلا يوجب انصباغ الباطن بحكمه لكونه صاحب الوقت والغاية، أظهر الاسم الباطن قوّته وغناه الذاتيّ.
ومتى بالغ الباطن في ترجيح مرتبة بنسبة غناه ونزاهته، أظهر الظاهر سرّ توقّف معرفته عليه، وكون الظاهر مطلوبا للباطن والظاهر مستغن، فلا تزال المجاذبة والمقارعة واقعة بين المرتبتين.
والحافظ للحدّ- أعني الإنسان الكامل- برزخ بين الحضرتين، جامع لهما، بيده الميزان في قبّة أرين، دائم النظر إلى عين الميزان، الذي هو مقام الاعتدال ونقطة وسط الدائرة، فتراه حارسا واقيا حافظا بأحديّة الجمع صورة الخلاف، مظهرا ناظما فاصلا يطلب من ربّه أن يجوع يوما ويشبع يوما، تأسّيا بصورة الأصل، وتطبيقا تناسبيّا بين حكم الحقائق الغيبيّة المجرّدة الباطنة والموادّ الصوريّة التركيبيّة الظاهرة فإنّ العصمة من لوازم الاعتدال وأحكامه على اختلاف مراتب الاعتدال المعنويّة والروحانيّة والطبيعيّة بالنسبة إلى الصور البسيطة والمركّبة، وضدّ الاعتدال- حيث كان- يلزمه الفناء والاختلال والتحليل وظهور الأحكام الشيطانيّة ونحو ذلك، فاعتبر ما ذكرته لك كلّيّا عامّا وجزئيّا في كلّ مرتبة وصورة معيّنة، وعضو ظاهر وباطن، وأمر طبيعي أو روحاني، تستشرف على أسرار غريبة عزيزة، عظيمة الجدوى.
غذاء الروح وغذاء الجسد:
ثم اعلم، أنّه كما اختصّ كلّ مزاج صوري باعتدال يخصّه ويناسبه وبحفظه تنحفظ صحّة ذلك المزاج، ويدوم بقاء صاحبه، ويظهر أحكام القوى البدنيّة في ذلك المزاج، على الوجه الموافق والميزان المناسب بالمزج المتوسّط بين طرفي الإفراط والتفريط، فيتأتّى لجميع القوى أن تتصرّف في أفانين أفعالها، وتتعلّق المدارك بحسب مراتبها بمدركاتها ونحو ذلك، كذلك للروح الإنساني قوى وصفات واختلاف يحصل بينها امتزاج روحاني ومعنوي يقوم منها نشأة نورانيّة، ولذلك المزاج أيضا اعتدال يخصّه، وميزان يناسبه، بحفظه تنحفظ تلك النشأة، ويتأتّى لقواها التصرّف فيما أبيح له التصرّف فيه، على نحو ما سبق التنبيه عليه في المزاج الصوري.
فمتى انفتحت عين البصيرة لإدراك تلك النشأة وخواصّها وقواها وصفاتها وأغذيتها وأحكامها، سرى حكم النشأة الباطنة وقواها في النشأة الظاهرة سريان حكم صورة الاسم الباطن والاسم الظاهر فيها عند تمام المحاذاة وارتفاع الحجب المانعة من الإدراك، فإنّها الجامعة بين الصورتين، والفائزة بالحسنيين وهي المخلوقة على الصورة، والصورة الظاهرة الإنسانيّة جزء منها، فإنّ الصورة الظاهرة نسخة الاسم الظاهر والأحوال الإنسانيّة- من حيث تبعيّتها لعينه الثابتة وحال كونها بأسرها ثابتة- هي نسخة صورة الاسم الباطن.
وهذه الصورة المنتشية والناتجة بينهما من الصفات والعلوم الإلهيّة والأخلاق بالامتزاج المذكور، التالي للامتزاج المختصّ بالنشأة الظاهرة، هي نسخة صورة الحقّ من حيث حضرة الجمع والوجود وقد مرّ حديثها.
وإن شئت قلت: من حيث الاسم اللّه الجامع- كيف ما أردت- بشرط معرفة المقصود وخرق حجب العبارات. وهذه هي الولادة الثانية، التي يشير إليها المحقّقون، ولها البقاء السرمدي والمقام العليّ، وأهل الأذواق فيها على مراتب وحصص نشير إليها فيه بعد، إن شاء اللّه. ومن هذا المقام يعرف سرّ الاسم الربّ وكينونته في العماء، كما أخبر صلّى اللّه عليه وآله لمّا سئل: أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه قال: «كان في عماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء» الحديث، ويعرف العماء أيضا وما يختصّ به من الأسرار، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولتحصيل معرفته فليعمل العاملون.
حكمة العارفين:
ثم نقول: فإذا انفتحت عين البصيرة- كما قلنا- واتّحد نورها بنور البصر، وهكذا كلّ قوّة من قوى النشأة المذكورة تتّحد بآلات النشأة الظاهرة ويتّصل حكم بعضها بالبعض، عرف صاحبها حينئذ سرّ تقويم الصحّة وحفظها على النفس، وتصريف كلّ قوّة فيما خلقت له ولم يتجاوز بها حدّها، ولم يمزج بين الصفات، ولم يخلط بين المراتب وأحكامها، وأقام العدل في نفسه وخاصّة رعاياه، وتحقّق بالاسمين: الحكم العدل وغيرهما، وصار صحيح الكشف، صحيح المزاج الروحاني، كنبيّنا صلّى اللّه عليه وآله والكمّل قبله وبعده من ورثته.
فما كان كمال كشفه إدراكه في مرتبة المثل، كشفه ممثّلا، وما كان كمال كشفه أن يدرك في الحسّ، أدركه في الحسّ، وما كان كمال كشفه أن يدرك في عالم المعاني المجرّدة والحضرات الروحانيّة، أدركه في مرتبته حيث كان على ما هو عليه.
أخبرني شيخي وإمامي الإمام الأكمل رضي اللّه عنه: أنّه منذ تحقّق بهذا الأمر ما استعمل قوّة من قواه إلّا فيما خلقت له، وأنّ قواه شكرته عند الحقّ لإقامة العدل فيها وتصريفه إيّاها فيما خلقت له، وهذا من أعلى صفات مرتبة الكمال عند من عرف ما الكمال، فكن يا أخي ممّن عرف- إن شاء اللّه-
تخبط المحجوبين:
ثم نقول: وفي مقابلة صاحب هذا الذوق المحجوبون عن عالم الكشف، وهم الذين بعدت نسبة أمزجتهم الروحانيّة عن الاعتدال المذكور، بطمس قواهم النفسانيّة، واستيلاء حكم بعض الصفات الطبيعيّة بقهرها لباقي الصفات، وانصباغ ما عدا الغالب بحكم تلك الصفة الغالبة انصباغا أوجب اضمحلال خاصّيّته واستهلاكه، كما أشرنا إلى ذلك في التجلّي الذاتي بالنسبة إلى المتجلّى له التامّ التوجّه والاستعداد.
فالمزاج الروحاني- الذي للجاهل الفدم، الغليظ، الأحمق، الجافي، البعيد الفطنة جدّا- في مقابلة المزاج الروحاني المختصّ بصاحب الكمال المذكور، الذي يبصر بالحقّ ويسمع به، ويبصر أيضا به الحقّ ويسمع به، كما ورد في الحديث الثابت.
ونظير هذا الذي ذكرناه- من الصور المركبة بالنسبة إلى الاعتدال الطبيعي في الأمزجة- مزاج المعدن بالنسبة إلى مزاج الإنسان، الذي هو أقرب الأمزجة نسبة إلى الاعتدال التامّ.
وبين مرتبة الكامل وحاله، ومرتبة الجاهل المحجوب المذكور وحاله مراتب ودرجات.
فمن كانت نسبته إلى المرتبة الكماليّة أقرب، كان حظّه من الكشف والصورة الإلهيّة والعلم بالحقّ وغير ذلك من صفات الكمال بمقدار ذلك القرب وتلك النسبة ومن كانت نسبته إلى المرتبة التي في مقابلة الكمال أقرب، كانت حجبه أكثر، وحظّه من الصورة والكشف وغيرهما ممّا ذكرنا أقلّ.
والميزان الإلهي في كلّ زمان هو كامل ذلك الزمان وحاله وكشفه، ومنه يعلم حكم الاعتدال والانحراف في مطلق الصورة الوجودية والصور المتعيّنة الإنسانيّة، وفي باقي مراتب الاعتدال، كالاعتدال المعنوي والروحاني وغيرهما، ولكلّ ما يغتذي به من صور الأغذية خواصّ وقوى روحانيّة غير القوى والخواصّ المشهودة والمدركة من حيث صورته وأثره في الأجسام، ولتلك الخواصّ أحكام مختلفة على نحو ما ذكر في الإنسان وغيره، وبين الأغذية ومن يغتذي بها- من حيث المزاج الصوري والمزاج الروحاني والمعنوي- مناسبات من وجه ومنافرات من وجه، والحكم في كلّ وقت للاسم الربّ إنّما يظهر بالغالب منها، وأكثرها خفية تعسر معرفتها إلّا بتعريف إلهي.
فعلى قدر المناسبة وصحّة المزاج الروحاني المذكور يقوى الكشف، ويصحّ ويكثر، وتعلو مرتبته، وتشرف نتائجه من العلوم والأذواق والتجلّيات بشرط اقتران حكم الاسم الأوّل ومساعدته، كما نبّهنا على ذلك غير مرّة، وعلى قدر المباينة وقلّة المناسبة وضعف الامتزاج والمزاج الروحانيّين يكثر الحجب، ويقلّ الكشف والعلم والإدراك الذوقي ولوازم ذلك كلّه.
ولهذا المقام من حيث ما يتكلّم فيه الآن تتمّات أخر لكن ذكرها في شرح إيّاك نعبد أولى، فأخّرتها لذلك، واللّه الميسّر.
ثم اعلم، أنّ للطبيعة- من حيث هي- أحكاما ولها من حيث تعيّن حكمها في مزاج مزاج أحكام، وللأرواح أيضا صفات وأحكام، وللأمر الجامع لهما أحكام، ولمرتبة الاجتماع- من حيث هي- أحكام، وللوازم التابعة للاجتماع بها والأمر الجامع أحكام.
فالتدريج والرياضة والتهذيب والسياسة ينتفع بها في خروج ما في القوّة إلى الفعل ورسوخ بعض الأحكام العارضة المحمودة لتصير ذاتيّة أو كالذاتيّة، وفي إزالة بعض الصفات ورفع أحكامها المذمومة لئلا تترسّخ فيتعذّر الانسلاخ عنها، ويبقى في المحلّ أحكام ثابتة مضرّة وكلّ ذلك ليتدرّج الإنسان، فيصل إلى ما يناسبه من الاعتدال المعنوي والروحاني والصوري المثالي وغير المثالي، ويستمرّ حكمه المؤجّل إلى الأجل المعلوم المقدّر وغير المؤجّل.
فمن عرف ما ذكرناه، عرف سرّ الصورة والظهور بها، وسرّ الكشف والحجاب وما للأغذية في ذلك من الحكم، ويعرف سرّ الحلال من الأطعمة والحرام، وسرّ المجاهدة والرياضة وغير ذلك من الأسرار العظيمة المصونة عن الأغيار.
المزاج يغلب قوّة الغذاء:
واعلم، أنّه كما أنّ الغذاء إذا ورد على محلّ قد غلب عليه كيفيّة مّا، فإنّه يستحيل إلى تلك الكيفيّة، وكون المزاج- إذا كان قويّا- أبطل قوة الغذاء وحكمه بغلبة قوّته عليه، فلم يظهر أثر للخواصّ المودعة في ذلك الغذاء، التي لو لم تصادف هذا المقام والقاهر، لبدا أثرها:
فكذلك حكم الخواصّ والقوى الروحانية المودعة في كلّ غذاء مع المزاج الروحاني الذي للمتناول، الحاصل- كما قلنا- من اجتماعات القوى الروحانيّة والصفات النفسانيّة العلميّة منها والعمليّة فإنّ هذا المزاج ينتهي في القوّة إلى حدّ يقلب أعيان الصفات الروحانيّة إلى الصفة المحمودة الكاملة، الغالب حكمها على صاحب هذا الحال والمزاج الروحاني المشار إليه، ويضمحلّ قواها وخواصّها في جنب قوّة هذا الشخص وروحه.
وهكذا الأمر في الطرف المذموم ومقام النقائص بالنسبة إلى من هو في مقابلة أهل الكمال فإنّ الفيض الإلهي وآثار القوى العالية والتوجهات الملكيّة تصل إليهم في غاية التقديس والطهارة متميّزا بعضها عن بعض، فإذا اتّصلت بهم انصبغت بحسب أحوالهم والصفة الناقصة المذمومة المستولية عليهم، فانقهرت الآثار الأسمائيّة والتوجّهات الروحانيّة تحت حكم طبيعتهم وأمزجتهم المنحرفة الناقصة، وظهر عليها سلطان صفاتهم المذمومة، فحجبتها وأخفت حكمها، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في سرّ التجليات، فافهم.
ومن تفاصيل هذا السرّ والمقام تستشرف على سرّ الحلّ والحرمة أيضا، كما نبّهت عليه، فتعلم أنّ ثمّة أمورا هي بالنسبة إلى بعض الخلق نافعة وبالنسبة إلى غيرهم غير نافعة، ونظير هذا في المرتبة الطبيعيّة الظاهرة أشياء شتّى كالعسل- مثلا- بالنسبة إلى المحرور المحترق المزاج، وبالنسبة إلى المبرود والمرطوب الغالب على مزاجه البلغم.
والضابط لك في هذا الباب أنّه مهما ظهر لك حكم من هذه الأحكام في الطبيعيّات فاعتبر مثله في المراتب الروحانيّة والصفات المعنويّة النفسانيّة، واستحضر ما أسلفت لك في النكاحات الخمسة وأسرارها من أنّ الأحكام الطبيعيّة ناتجة متحصّلة عن الأحكام الروحانيّة، والروحانيّة ناتجة عن الحقائق الغيبيّة فإن كنت من أهل الكشف والشهود، فتذكّر بهذا الكلام وتنزّه، وإلّا فسلّم واطلب فإنّ الرزّاق ذو القوّة المتين، ما هو على الغيب بضنين ولتعتبر أيضا بعد اعتبارك لتبعيّة الطبيعيّات للروحانيّات تولّد الأرواح الجزئيّة عن الأمزجة الطبيعيّة، وما للمزاج فيها وفيما يختصّ بها من الأحكام والآثار من حيث إنّها متعيّنة بقدر الأبدان، وبحسب المزاج، وارق به بعد ذلك إلى حكم الأعيان مع الأسماء والوجود الواحد المطلق، على ما نبّهتك عليه أوّلا، وانظر ما يبدو لك من المجموع، تر العجب العجاب، وتنزّه في عموم حكم الغذاء في كلّ مرتبة، فغذاء الأسماء أحكامها بشرط المظاهر التي هي محلّ الحكم، وهذا هو عالم المعاني والحقائق الغيبيّة، وغذاء الأعيان الوجود، وغذاء الوجود أحكام الأعيان، وغذاء الجواهر الأعراض، وغذاء الأرواح علومها وصفاتها، وغذاء الصور العلويّة حركاتها وما به دوام حركتها الذي هو شرط لدوام استمدادها من أرواحها المستمدّة من الحقائق الأسمائيّة، وغذاء العناصر ما به بقاء صورها المانع لها من الاستحالة إلى المخالف والمضادّ، وغذاء الصور الطبيعيّة الكيفيّات التي منها تركّبت تلك الصورة والمزاج، فالحرارة لا تبقى إلّا بالحرارة، وكذا البرودة وغيرهما من الكيفيّات الروحانيّة، والرطوبة الأصليّة التي هي مظهر الحياة لا تبقى إلّا بالرطوبة المستمدّة من الأغذية لكن لا يتأتّى قيام المعنى بالمعنى وانتقاله إليه حقيقة وحكما إلّا بواسطة الموادّ والأعراض اللازمة وهي شروط يتوقّف الأمر عليها، وليست مقصودة لذاتها ولا مرادة بالقصد الأوّل الأصلي، فوظيفتها أنّها توصل المقصود وتنفصل، فيعقبها المثل، وهكذا الأمر في كلّ غذاء ومغتذ على اختلاف مراتب الأغذية والمغتذين الذين سبق ذكر مراتبهم.
ولمّا كان الوجود واحدا ولا مثل له كانت تعيّناته الحاصلة والظاهرة بالأعيان هي التي يخلف بعضها بعضا مع أحديّة الوجود، فافهم.